هل يمكن للشركات الناشئة أن تُسهم في إعادة بناء السلام في سوريا؟
أصوات الصناعة

هل يمكن للشركات الناشئة أن تُسهم في إعادة بناء السلام في سوريا؟

[قراءة 10 دقائق]

بواسطة Bayanat

في هذا العدد من "أصوات الصناعة"، جلسنا مع أحمد سفيان بيرم، الشريك العام في Blackbox ومؤسس Startup Syria، لاستكشاف كيف يمكن لريادة الأعمال أن تكون محفزًا لبناء السلام، وتعزيز الصمود، وتوطيد التماسك الاجتماعي في المناطق المتأثرة بالنزاعات.

تجسِّد رسالة أحمد رؤية قوية حول كيف يمكن للابتكار وريادة الأعمال أن يُسهما في وضع أسس لسوريا أكثر ترابطًا وقدرة على التعافي.


مسيرة أحمد سفيان بيرم


لم تكن ريادة الأعمال بالنسبة إلى أحمد مجرد مسار مهني، بل تحوّلت إلى رسالة تشكّلت بفعل النزاع والتهجير، مدفوعة بإيمانه الراسخ بقدرة الشركات الناشئة على إحداث التغيير. في سن السابعة عشرة، وأثناء إقامته في سوريا، أطلق أحمد أولى شركاته: Joy Makers، وهي شركة تعمل في الهدايا المصممة بشكل شخصي. سرعان ما لاقت الشركة رواجًا، بل وجذبت تمويلاً من المستثمرين (الملائكة).

لكن عام 2011 غيّر كل شيء. "المصنع الذي كنا ننتج فيه منتجاتنا قُصف"، يقول أحمد. ومع دخول سوريا في أتون الحرب، أصبح مفهوم ممارسة الأعمال غير قابل للتطبيق. انتقل أحمد إلى لبنان، حيث كانت تقيم بعض أفراد عائلته، واندمج هناك في بيئة الشركات الناشئة اللبنانية، عازمًا على نقل ذلك الزخم يومًا ما إلى سوريا.

قضى أحمد معظم مسيرته المهنية في Techstars، حيث انضم عام 2015 وعمل لأكثر من تسع سنوات مديرًا إقليميًا لأوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا. وخلال تلك الفترة، ركّز جهوده على دعم رواد الأعمال في المناطق الهشة والمتأثرة بالنزاعات، لا سيما في منطقة المشرق. كما ألّف كتابين: "ريادة الأعمال في مناطق النزاع" و"ريادة الأعمال في المنفى".

اليوم، يشغل أحمد منصب الشريك العام في Blackbox، وهي منصة تُعنى بالمؤسسين، مقرّها بالو ألتو (Palo Alto)، أسسها رائد الأعمال السوري فادي بشارة. على مدار سنوات، لعبت Blackbox دور الجسر بين المؤسسين العالميين ومنظومة وادي السيليكون، مقدمةً الإرشاد والمجتمع الداعم وبرامج احتضان مكثفة شاملة. "لقد دعمنا أكثر من 400 مؤسس في أكثر من 60 دولة. جمعوا ما يزيد عن 1.5 مليار دولار، وحقق 13 منهم خروجًا (exit)، و91% لا يزالون يعملون حتى اليوم"، يقول أحمد.

ولكن، كما هو الحال مع الكثيرين، غيّرت جائحة كوفيد-19 المسار. فتوجّهت Blackbox من الاهتمام العالمي إلى التركيز على القضايا العاجلة. واليوم، تسعى إلى إنشاء صندوق مخصص لدعم رواد الأعمال المهجرين قسرًا من أوطانهم بفعل الحروب أو الاضطرابات السياسية أو الانهيارات الاقتصادية.


ستارت أب سوريا: حركة مجتمعية بقيادة روّادها


من السمات التي تميز مسيرة أحمد شغفه العميق بريادة الأعمال، وسعيه الدائم لتمكين الرواد الآخرين. وفي هذا السياق، أسّس "ستارت أب سوريا" عام 2013، كمبادرة تهدف إلى تمكين رواد الأعمال السوريين. بدأت الفكرة بلقاءات غير رسمية وجلسات لتبادل المعرفة، قبل أن تتطوّر إلى شبكة نابضة بالحياة يقودها المجتمع.

في بداياتها، اعتمدت "ستارت أب سوريا" على هيكلية لا مركزية، حيث نظّم المتطوعون ورشات عمل وفعاليات، وشارَكوا الموارد، وسلّطوا الضوء على قصص الإبداع والصمود. ومع الوقت، نمت المبادرة لتضمّ أكثر من 10 آلاف عضو.

ومع بعض التغيّرات في سياسة الحكومة السورية التي بدأت تسهّل تأسيس المشاريع، بدأ أحمد يطرح سؤالًا مألوفًا: كيف يمكن نقل كل ما تعلّمه في الخارج إلى الداخل السوري؟

رفضًا للرواية المتكرّرة التي تقول إن سوريا لا تمتلك بيئة ريادية، شرع أحمد في توثيق الواقع. كانت النتيجة تقريرًا هو الأول من نوعه، كشف عن منظومة ناشئة نشطة ضمّت أكثر من 200 شركة ناشئة في مراحلها الأولى، وأكثر من 300 فعالية ريادية خلال بضع سنوات فقط.

أبرز ما لفت الانتباه في نتائج التقرير كان الدور الريادي للنساء، إذ بلغت نسبة مشاركتهن 35%، وهي من أعلى النسب في المنطقة.

وقد أعادت هذه النتائج إشعال روح المهمة لدى "ستارت أب سوريا"، ليعود التركيز على العمل المباشر مع المؤسسين داخل البلاد، وتزويدهم بالأدوات والرؤية، ووضع ريادة الأعمال كركيزة لبناء السلام، والصمود، والتماسك المجتمعي.


هاكاثون Hack for Syria


لم تبقَ هذه المهمة مجرّد نظرية، بل تحوّلت إلى التزام شخصي عميق. في مطلع هذا العام، زار أحمد سوريا لأول مرة منذ أكثر من عقد. وبينما كان ينوي أن تكون الزيارة شخصية، تحوّلت سريعًا إلى شيء أكبر.

خلال جولته، زار مركزًا طبيًا مؤقتًا لا تتجاوز مساحته 4 أمتار مربعة، يخدم أكثر من 40 ألف شخص. "لماذا لا يوجد تطبيق لتسهيل هذا الأمر؟"، تساءل أحمد. تخيّل نظامًا يتيح لأطباء سوريين في الشتات، كالأكثر من 6 آلاف طبيب سوري يقيمون اليوم في ألمانيا، التبرّع بـ30 دقيقة من وقتهم لدعم القطاع الصحي في الداخل.

لكن التحديات لم تتوقف عند الصحة. "أكثر من 2000 مدرسة قُصفت"، يقول أحمد. "الأطفال لا يحصلون على تعليم أساسي. وأنا درست في سوريا، يمكنني تعليم الفيزياء أو الرياضيات. لماذا لا توجد منصة تتيح هذا؟"

من هنا انطلقت فكرة "هاك من أجل سوريا"، وهو هاكاثون جمع مجتمع التكنولوجيا السوري داخل البلاد وخارجها لإيجاد حلول واقعية. جاءت الاستجابة مذهلة، إذ سجّل أكثر من 5600 شخص. ولتلبية هذا الطلب، توسّع الحدث من مركز واحد إلى 11 مركزًا في مختلف المحافظات، مع توفير الإنترنت والكهرباء للمشاركين.

اجتمع أكثر من 300 فريق لتطوير نماذج أعمال وتطبيقات ومواقع إلكترونية، بدعم من 75 مرشدًا من الشتات السوري والمنظومة الريادية الأوسع. تمحورت الجهود حول ستة محاور رئيسية: البنية التحتية، التعليم، الصحة، التماسك الاجتماعي، التنمية الاقتصادية، والزراعة.

تم اختيار 16 شركة ناشئة للانضمام إلى برنامج Launchpad لمدة أسبوعين، لتطوير نماذج أعمالها، والحصول على التوجيه والإرشاد، على أن تُختتم المبادرة بـ Demo Day، لعرض المشاريع أمام المستثمرين والشركاء المحتملين.

وكان من أبرز نتائج الهاكاثون تعزيز التواصل بين مجتمعات سورية كانت معزولة عن بعضها. "للمرة الأولى منذ 14 عامًا، يعمل شاب من إدلب مع شابة من دمشق أو دير الزور على مشروع مشترك"، يوضح أحمد. الحدث أصبح الأول من نوعه الذي يُنظَّم في وقت واحد عبر غالبية المدن السورية.

وقد كشفت المبادرة كذلك عن مزايا مناطقية جديدة تُعيد تشكيل المشهد الريادي في البلاد. فعلى سبيل المثال، تستفيد شمال سوريا من تخفيف العقوبات بموجب "الرخصة العامة 22" ، وبنية تحتية أفضل، ومرونة تشغيلية أكبر. وباتت شركات دمشق ترى في الشمال سوقًا واعدة تضم أكثر من أربعة ملايين نسمة، والعكس صحيح.


البنية التحتية في سوريا


تُعدّ البنية التحتية المتدهورة، خصوصًا في مجالي الكهرباء والاتصال بالإنترنت، من أبرز التحديات التي تواجه الشركات الناشئة. لا تؤثر هذه المعوّقات فقط على العمليات الداخلية، بل تمتد لتشمل كيفية وصول المنتجات إلى العملاء.

يقول أحمد: "يعتمد كثير من المؤسسين على الطاقة الشمسية والمولدات، وللاتصال يعتمدون على هواتفهم أو خطوط DSL، وبعضهم يستخدم ستارلينك (Starlink)".

لكن هذه البدائل لا تنطبق دائمًا على المستخدمين. روى أحمد قصة مؤسس أطلق حملة تسويق عبر الرسائل النصية لترويج رابط خصومات، أرسل أكثر من ألف رسالة ولم يتلقّ أي نقرة. وبعد التحقيق، تبيّن أن المشكلة تكمن في أن معظم السوريين يستخدمون باقات تواصل اجتماعي فقط، تتيح الاتصال بـ"إنستغرام" و"فيسبوك" و"واتساب" فقط.

حتى خلال الهاكاثون، شكّلت مسألة تأمين الكهرباء والإنترنت تحديًا حقيقيًا. ورغم كل ذلك، يستمر كثير من المؤسسين في البناء، مدفوعين بالأمل بأن السوق السوري سيكشف عن إمكاناته الحقيقية بمجرد زوال القيود.


منظومة الدعم


رغم الروح الريادية القوية، لا تزال أنظمة الدعم ضعيفة. لا يوجد استثمار مؤسسي حقيقي، ما يشكّل عنق زجاجة للمؤسسين. فبمجرد أن تتجاوز الشركات المراحل الأولى وتحتاج إلى رأس مال للنمو، لا تجد أي مستثمرين محليين. "عندها، يتخلّى المؤسسون عن فكرة النمو السريع، ويكتفون بتحقيق دخل بسيط لتغطية التكاليف"، يقول أحمد.

مع ذلك، بدأت الأمور تتغير تدريجيًا هذا العام. "هناك ثلاث أو أربع مؤتمرات تُنظَّم، ولقاءات متعددة، وبدأ بعض المستثمرين يعودون للبحث عن فرص. المنظومة في طور البناء، لكنها ستحتاج إلى وقت طويل".


الإطار القانوني


تمثّل الأطر القانونية عائقًا غير متوقع أمام رواد الأعمال في مناطق النزاع. أوضح أحمد أن القوانين القديمة وغير الواقعية في سوريا كانت تعرقل إطلاق الشركات. "كان يُطلب منك التسجيل، وامتلاك مكتب، ودفع رسوم، وتقديم أصول، وهذا لا يتماشى مع طبيعة الشركات الناشئة"، يوضح.

وتتعدّى المشكلة البيروقراطية إلى أبعاد أمنية أعمق، إذ كانت القوانين تفرض تخزين البيانات محليًا وتوفيرها للأجهزة الأمنية، ما أثار مخاوف كبيرة لدى أي شركة تتعامل مع بيانات حساسة أو حلول رقمية.

ومع ذلك، هناك بوادر أمل. يشير أحمد إلى أن تغييرات سياسية حديثة قد تفتح الباب أمام تحوّل إيجابي. "الوزير الجديد للاتصالات والتطبيقات الرقمية، عبدالسلام هيكل، هو شخص أعرفه منذ 2013، وكان دائمًا من الداعمين لريادة الأعمال. آمل أن ينقل هذا الفكر إلى العمل الحكومي".


مشهد الاستثمار


تبقى العقوبات الدولية من أكبر العوائق أمام جذب رؤوس الأموال إلى سوريا. ولكن، يشدّد أحمد على أن التغيير يجب أن يبدأ من الداخل، خاصة في طريقة تفكير المستثمرين المحليين حيال الشركات الناشئة.

حتى الآن، لا تزال الأدوات الحديثة كاتفاقيات SAFE أو "السندات القابلة للتحويل" غير مفهومة، ما يصعّب توفير شروط مرنة ومناسبة للمؤسسين. في المقابل، يسعى المستثمرون المحليون غالبًا إلى حصص كبيرة وعوائد سريعة، ما يتعارض مع طبيعة الاستثمار الريادي. "لا يؤمنون بالخروج، يؤمنون بالربح المباشر"، يقول أحمد.

لكن السوق السوري يحمل إمكانات ضخمة. "نحو 30 مليون نسمة — أكثر من كل دول الخليج مجتمعة باستثناء السعودية"، يختتم أحمد. ويعتقد أحمد أنّ هذه الخبرات ستُسهم لاحقًا في نشوء جيل جديد من المؤسّسين السوريين القادرين على المنافسة. ما نحتاج إليه فعلاً هو جهد جماعي: تعزيز مجتمع الشركات الناشئة المحلي، وتفعيل التعاون، وبناء شركات ذات أسس متينة قادرة على جذب استثمارات ذات قيمة.

ويؤدّي أبناء الجالية السورية في الخارج دورًا حاسمًا في هذا السياق، من خلال نقل المعرفة، وتوفير الاستثمارات، وتسهيل الروابط مع العالم.

وبينما ركّزت الجهود الأولى للجالية على المساعدات الإنسانية خلال فترة النزاع، فإنّ كثيرين بدأوا اليوم يتحوّلون نحو انخراط طويل الأمد، عبر دعم ريادة الأعمال والمساهمة في إعادة بناء البنية التحتية داخل البلاد.


بناء السلام من خلال ريادة الأعمال


تحدّث أحمد عن الدور الذي يمكن أن تؤدّيه الشركات الناشئة في تعزيز السلام والمصالحة في سوريا. واستنادًا إلى تجاربه الشخصية وتجارب مناطق أخرى تأثّرت بالنزاعات، أشار إلى أنّ ريادة الأعمال يمكن أن تكون قوة فاعلة في جمع الناس، خصوصًا عندما تركّز على حلّ المشكلات المشتركة، وبناء مستقبل موحّد.

يرى أحمد أنّ الشركات الناشئة توفّر أكثر من مجرد فرص اقتصادية؛ إذ يمكن أن تكون منصّات لتعزيز التماسك الاجتماعي. فمن خلال ترسيخ عقلية تعاونية تركز على حلّ المشكلات، وتوفير مسارات ملموسة للتوظيف، تسهم ريادة الأعمال في إبعاد المجتمعات عن البدائل الضارّة أو المسبّبة للانقسام.

وشدّد أحمد على أنّ مساهمة ريادة الأعمال في بناء السلام لا تتحقّق ما لم تتجاوز السعي وراء الربح والابتكار. بل يجب أن تكون شاملة، مقصودة، ومتناغمة مع الديناميكيات المحلية. فالبرامج التي تُفضّل المؤسّسين ذوي العلاقات الواسعة قد تُفاقم من عدم المساواة، وتُذكي الانقسامات. ولهذا، يدعو إلى تبنّي نهج "عدم التسبّب في الضرر" لضمان توزيع الفرص على جميع فئات المجتمع. ويؤمن أحمد بأنّ التأثير المستدام ينبع من المبادرات التي تُعلي من شأن الإدماج الاجتماعي، وتنظر إلى بناء السلام لا كمحصّلة جانبية، بل كهدف رئيسي.


الإمكانات الكامنة في المنظومة السورية


يرى أحمد أنّ البيئة الريادية في سوريا تمتلك إمكانات هائلة. فعلى الرغم من سنوات الصراع، يعتقد أنّ البلاد يمكن أن تتحوّل إلى مركز فعّال للشركات الناشئة، إذا ما توفّرت مقوّمات السلام والأمن والتماسك الاجتماعي. ومع تهيئة الظروف المناسبة، يتصوّر أحمد أنّ بإمكان الشركات الناشئة إنشاء مكاتب خلفية أو مراكز تشغيل في سوريا، مستفيدةً من موقعها الاستراتيجي القريب من مراكز عالمية مثل دبي، وانخفاض التكاليف التشغيلية مقارنةً بغيرها.

من شأن هذا النموذج أن يوفّر للمهنيين السوريين فرصًا مباشرة للانخراط في بيئات نمو عالية، والوصول إلى حقوق ملكية من خلال خطط أسهم الموظفين (ESOPs)، مما يوفّر لهم فرصًا للتعلّم وبناء الثروة في آنٍ معًا.


* جرت المحادثة في 8 أبريل/ نيسان 2025.


اشترك في نشرتنا الإخبارية لتكون أول من يعرف عند نشر قصص جديدة من "أصوات الصناعة" !

كن في الطليعة

انضم إلى مجتمعنا المتنامي من عشاق التكنولوجيا، ولا تفوّت أي قصة، أو رؤية، أو تحديث حول التمويل في قطاع التكنولوجيا المزدهر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.