
واقع بناء مشاريع التقنية الناشئة في سوريا
[قراءة 8 دقائق]
في هذه النسخة من "كفاح المؤسسين"، أجرينا حوارًا مع أيهم القصيّر، المؤسس والرئيس التنفيذي لمنصة "المختار" (AlMkhtar)، وهي منصة إعلانات مبوبة صُمّمت خصيصًا لتلبية احتياجات السوق السورية. تحدث أيهم عن رحلته في بناء المنصة من الصفر، والتحديات الصعبة التي واجهها في إطلاق شركة ناشئة في سوريا، من فجوات البنية التحتية والعقبات التنظيمية، إلى ما يحتاجه المؤسسون المحليون فعلاً للنجاح.
الخلفية
بعد تخرّجه من الجامعة الدولية الخاصة للعلوم والتكنولوجيا في سوريا، انتقل أيهم إلى قطر، حيث انضم إلى شركة ابن عمه FutureGate Software. في تلك الفترة، كانت الشركة تعمل على تطبيق QatarSale، و هو عبارة عن منصة لبيع المركبات، حيث أصبحت لاحقًا من أبرز المنصات في السوق القطري. من خلال تلك التجربة، اكتسب أيهم معرفة عملية عميقة في كيفية بناء سوق إلكتروني متخصص، وتعلّم أساسيات التصميم التقني وتجربة المستخدم الناجحة.
لاحقًا، شارك في تطوير برنامج PharmaFlow، وهو حل برمجي مُصمم لقطاع الصناعات الدوائية، أيضًا عبر FutureGate. خلال تلك الفترة، وأثناء بحثه عن منزل للإيجار في قطر باستخدام منصة QatarLiving، لاحظ مشكلة مزعجة في نظام الفلترة. يقول: "كنت أستخدم قطر ليفنغ للبحث عن بيت، لكن نظام التصفية كان مزعجًا. لم أكن أستطيع تحديد ما أبحث عنه بدقة". من هنا وُلدت فكرة "المختار"—منصة تتمحور حول أدوات تصفية ذكية تساعد المستخدمين على إيجاد ما يبحثون عنه بسهولة وثقة.
ما هي "المختار"؟
يبني أيهم منصة "المختار" لتكون سوقًا إلكترونيًا مبوبًا، لكن بتوجه متخصص بعيدًا عن النمط التقليدي العام. بدلًا من التعامل مع جميع الإعلانات كأنها متشابهة، تقدم المنصة أدوات تصفية ديناميكية وفقًا لنوع الإعلان، سواء أكان يتعلق بسيارة معينة، أو عقار بمعايير دقيقة، أو خدمة حرة.
تركّز المنصة حاليًا على قطاعات ذات قيمة عالية مثل العقارات والسيارات، مع رؤية للتوسّع إلى الإلكترونيات، والأزياء، والأثاث، والحيوانات الأليفة، والوظائف، والخدمات المستقلة، وغيرها. وتهدف إلى خدمة كلّ من الأفراد والشركات، مما يسهّل عمليات البيع والشراء والتوظيف، بأقل تدخل ممكن من إدارة المنصة.
اسم "المختار" مستمد من الجذر العربي "الاختيار"، ويعكس رؤية أيهم في بناء منصة تتمتع بالثقة والتنوع والاعتمادية.
انطلاقة "المختار"
بدأت الفكرة تتبلور في عام 2019، عندما أمضى أيهم ستة أشهر في بحث مكثّف شمل دراسة المنصات المبوبة في الشرق الأوسط، وأوروبا، والولايات المتحدة، مثل Dubizzle وCraigslist، بهدف رصد الفجوات وفهم ما يجعل منصة ما ناجحة.
قرر أيهم إطلاق المنصة في الإمارات، وتجاوز مرحلة النموذج الأولي ، فبنى منتجًا متكاملًا منذ البداية. علّم نفسه استخدام Figma ومبادئ تصميم تجربة المستخدم، وصمّم كل ميزة وتدفّق في المنصة بنفسه.
لكن ظروفه الشخصية أعادته إلى سوريا قبل الإطلاق، مما اضطره إلى تحويل مسار المشروع وبدء التجربة محليًا في سوق صعب ولكنه مألوف. وقد كلّفه ذلك ثمنًا باهظًا، إذ استغرق الحصول على ترخيص شركة في سوريا 18 شهرًا من الإجراءات البيروقراطية، وأجبره ذلك على تعديل خصائص المنصة لتتماشى مع اللوائح المحلية.
يقول: "كنت أكرر على فريقي: لا بأس، نحن في هذا معًا. لكن الحقيقة أنّ ذلك آلمني كثيرًا". ومع ذلك، أثبت القرار نجاحه. فقد جلبت حملة الإطلاق التي استمرت ثلاثة أشهر نحو 5,500 مستخدم، ما شكّل دليلًا قويًا على جاذبية المنصة رغم الظروف المعقدة.
بناء الثقة
يتطلب النجاح في السوق السورية أكثر من مجرد منتج جيد، بل فهمًا عميقًا للثقافة المحلية وبناء علاقات طويلة الأمد. فاليوم، تتركّز معظم أنشطة الإعلانات المبوبة في سوريا على منصّات مثل Facebook وInstagram، وهي منصات تفتقر إلى أنظمة تصفية متقدمة وآليات للثقة. وهنا تتمركز "المختار" كمنافس موثوق يقدم إعلانات موثقة وتجربة أكثر تنظيمًا.
الثقة تُعد من أبرز التحديات، لا سيّما في قطاع العقارات، حيث يهيمن وسطاء محليون يُعرفون باسم "الدلّال" على المشهد، ويعملون غالبًا بشكل غير رسمي ويستخدمون أساليب مضللة لتحقيق أرباح مبالغ فيها. ويشرح أيهم استراتيجيته بوضوح: "أقدّم كل شيء مجانًا. أقول للناس: إعلانك مجاني بالكامل، وسأدفع من جيبي للإعلان عنه. وسأربح لاحقًا من قنوات أخرى".
تعمل "المختار" حاليًا بنموذج "فريميوم" (Freemium)، وتُركّز بالكامل على بناء الثقة وزيادة الاستخدام النشط، دون التفكير في تحقيق أرباح حتى تصل المنصة إلى 100,000 مستخدم نشط، كما يقول أيهم.
التركيز الحالي ينصبّ على دمشق، والتي تضم نحو 70–80٪ من سكان سوريا. وتحقق المنصة أكبر قدر من التفاعل في مبيعات السيارات، وهو القطاع الأكثر نشاطًا حاليًا. يقول: "من الصعب جدًا تحقيق التوسع خارج دمشق في الوقت الحالي. لذلك نبدأ من حيث الأهمية، ثم نتوسّع".
تحديات بناء منتج تقني في سوريا
تشهد الشركات الناشئة التقنية في سوريا مجموعة معقدة من التحديات الفريدة: من العقوبات الدولية، والغموض التنظيمي، إلى ضعف البنية التحتية، وغياب إطار قانوني آمن.
واحدة من أكبر العقبات تكمن في توزيع التطبيقات. إذ تمنع متاجر التطبيقات مثل Apple App Store أي تطبيق يُشتبه في أنّه صادر من سوريا. يوضح أيهم: "إذا شكّوا أن التطبيق قادم من سوريا، يتم حظره فورًا. وتلقيت تحذيرات تقول: 'احذر، يبدو أنك تعمل من سوريا'". للتغلب على ذلك، يعتمد على الشبكات الافتراضية الخاصة (VPNs) وحلول مبتكرة.
لكن المشكلة لا تتوقف هنا. فحتى المهام اليومية مثل الصيانة التقنية تواجه صعوبات بسبب انقطاع الكهرباء وسوء جودة الإنترنت، ما يجعل العمل التقني أشبه بالتحدي اللوجستي الدائم. ويعلّق أيهم: "تطوير البنية التحتية، خاصة الكهرباء والاتصال، هو الأساس. من دون ذلك، لا يمكن بناء شيء مستدام".
أما التمويل، فهو الحلقة المفقودة الأهم. فمع أن عددًا متزايدًا من السوريين يعملون على مشاريع طموحة، إلا أنّ معظمهم يفعل ذلك من دون تمويل يُذكر. يقول: "ما يحتاجه الناس فعلًا هو المستثمرون. لسنا بحاجة إلى ورشات تدريب جديدة، بل إلى من يموّل فعليًا".
وحتى لو توفر التمويل، تبقى هناك عقبات هيكلية. فلا توجد أساليب موحدة لتقييم الشركات الناشئة، ولا شركات تمتلك الخبرة الكافية لتقديم تقييم مالي دقيق. ويضيف أيهم: "غالبًا ما تكون مجرد تقديرات تقريبية". فبيانات السوق شحيحة، ومقاييس مثل تكلفة الاستحواذ على المستخدم أو معدلات الاحتفاظ أو تقديرات السوق الكلي (TAM) من الصعب تحديدها. لذا، يعتمد المؤسسون والمستثمرون على الثقة والرؤية بعيدة المدى أكثر من الأرقام المجدولة.
ولهذا السبب، يوجّه أيهم نصيحة واضحة للجهات الدولية: "لا تأتِ إلى دمشق وتحاول البدء من الصفر. لن تتمكن من فهم السوق بالسرعة المطلوبة. إذا كنت جادًا، فابحث عن شريك محلي لديه الخبرة".
انطلاقة محلية بفرصة عالمية
رغم كل التحديات، بدأ النظام البيئي للشركات الناشئة التقنية في سوريا يُظهر مؤشرات إيجابية. العقبات التنظيمية بدأت بالتخفيف، وتُناقش حاليًا أطر قانونية جديدة، رغم أنها لم تُطبّق بعد. ويرى أيهم أن تطوّر هذا النظام سيتسارع مع تحسّن البنية التحتية والأنظمة القانونية، ولكن التقدّم الحقيقي يعتمد على الربط بين المعرفة المحلية ورأس المال العالمي الصبور.
وهذا ما تمثّله "المختار": منصة بُنيت بفهم محلي عميق، وتحت ضغط شديد، لكنها جاهزة للتوسّع مع نضوج السوق.
"Startup Syria": تحويل الرؤية إلى واقع
خلال حديثنا مع أيهم، تكرّر اسم واحد مرارًا: أحمد سفيان بيرم . يقول أيهم: "هو من القلائل الذين ينفّذون فعليًا، لا يكتفي بالكلام عن الدعم، بل يبني الأنظمة التي يحتاجها المؤسسون".
أحمد، الذي أجرينا معه مقابلة سابقة ضمن سلسلة "أصوات من الصناعة"، يُعد من أبرز الداعمين لمنظومة ريادة الأعمال في سوريا. من خلال مبادرة Startup Syria ودوره كشريك عام في صندوق Blackbox، ساهم أحمد في تأسيس ما أصبح اليوم نواة فصل جديد لريادة الأعمال السورية.
جزء أساسي من هذا التحول هو Startup Syria Launchpad، وهي مبادرة أطلقها أحمد لتقديم دعم فعلي للمؤسسين داخل سوريا، من خلال إرشاد منتظم ومسارات واضحة للوصول إلى التمويل. يوضح أيهم: "هذا ليس مجرد برنامج تدريبي آخر. إنه من القنوات القليلة الموثوقة التي يمكن أن تمنح الشركات السورية فرصة تمويل حقيقية".
بل ويتخطى الأمر ذلك، إذ يعمل أحمد وفريق Blackbox حاليًا على إطلاق صندوق استثماري مخصص لدعم المؤسسين السوريين العاملين على الأرض.
ويكتسب هذا الزخم دعمًا رسميًا بعد تعيين أحمد مستشارًا لوزير الاتصالات والتقانة في سوريا، مما يمنحه موقعًا مباشرًا للتأثير على السياسات، وحماية حقوق المستثمرين، ودفع اللوائح التي تدعم الابتكار الرقمي بدلاً من تقييده.
ما أكّده أيهم بوضوح هو أنّ النظام البيئي للشركات الناشئة السورية ما زال في طور النشوء، لكنه لم يعد أمرًا نظريًا. وبفضل مبادرات مثل Launchpad، وقيادات مثل أحمد التي تبني جسورًا حقيقية بين المؤسسين، والمستثمرين، وصنّاع السياسات، بدأت المنظومة تأخذ شكلًا واقعيًا يمكن البناء عليه.
اشترك في نشرتنا الإخبارية لتكون أول من يعرف عند نشر قصص جديدة من "كفاح المؤسسين"!